الثلاثاء، 5 سبتمبر 2023

تجربتنا في السير نحو الحسين عليه السلام مع (المشاية)

الدكتور: حسين محسن اللواتي

الدكتورة: فاطمة أنور اللواتي

 

 

في عام 2012 2012 شددنا الرحال إلى النجف الأشرف بالعراق قاصدين الانضمام إلى (المشاية) وهو السير مشيا على الأقدام إلى مرقد الإمام الحسين عليه السلام بكربلاء المقدسة. كان ذلك قبل أيام قلائل من 20 من شهر صفر (يوم الأربعين) بحيث يكون الوصول الى كربلاء قبل حلول...

في عام 2012 شددنا الرحال إلى النجف الأشرف بالعراق قاصدين الانضمام إلى (المشاية) وهو السير مشيا على الأقدام إلى مرقد الإمام الحسين عليه السلام بكربلاء المقدسة. كان ذلك قبل أيام قلائل من 20 من شهر صفر (يوم الأربعين) بحيث يكون الوصول الى كربلاء قبل حلول يوم الأربعين. شاءت الاقدار (والحمد لله) ان نلتقي في حرم الإمام علي عليه السلام بعائلة عراقية صديقة كانت عازمة مثلنا فاتفقنا معها على السير معا بعد أن غيرت المجموعة التي كان من المفترض ان نسير معها خطتها. وفي اليوم المقرر أخذنا معنا حقيبة صغيرة تضم أمتعتنا الضرورية ولبسنا أحذيتنا الرياضية وانطلقنا من فندقنا جارين معنا تلك الحقيبة وتاركين بقية امتعتنا في الفندق. اتجهنا نحو الطريق الذي يسلكه (المشاية) وهو أحد الاتجاهين للشارع الذي تسلكه السيارات) في الأيام العادية. وعندما وصلنا عند نقطة الالتقاء المتفق عليها مع العائلة، لم نجدها، ولأننا كنا معتمدين على معرفتهم وتجربتهم المتكررة لعدة أعوام، أصبحنا في حيرة من أمرنا واصابنا بعض القلق، لكننا قررنا أن نتوكل على الله سبحانه ونمشي. وهكذا انطلقنا لوحدنا من غير حملة كما هو حال الآخرين! 

 

تقع على الطريق بين النجف وكربلاء أعمدة الإنارة، ويفصل بين كل عمود وآخر 50 مترا وقد تم ترقيم هذه الأعمدة بحيث أصبحت أرقامها تستخدم كعناوين للمواكب التي تخدم (المشاية) كما أنها تساعد المشاية على معرفة مواقع بعضهم البعض إذا حدث أن افترقوا عن بعضهم وضاعوا في الزحام.  وتبلغ المسافة بين النجف وكربلاء حوالي ثمانون ونيف من الكيلو مترات.  ونحن في سيرنا حاولنا مصادقة من حولنا وتبادلنا مع البعض الحديث محاولين معرفة وفهم كيفية المبيت في الخيام ومتى وكيف والكثير من الأسئلة التي كانت تجول في الخاطر خصوصا أن تجربة المشاية كانت ما زالت جديدة علينا كعمانيين. كنا نستمع لهم لكننا لم نكن نستوعب كل الأمور. فمن الأمور التي كانت غير مفهومة لنا انهم قالوا لنا ان احذيتنا الرياضية التي كنا نلبسها غير مناسبة للمشي الطويل وقالوا إن الأفضل لكم أن تلبسوا نعلا شبيها بذلك الذي يستخدم في المراحيض (أجلكم الله) في العراق وبعض الدول الأخرى. في البداية لم نستوعب ذلك إلا أننا بعد فترة عرفنا صحة اقتراحهم وقررنا أن نجرب وكانت تباع بسعر رخيص. وهكذا بدلنا تلك الأحذية ذات العلامات التجارية بنعل بسيط ارتاحت فيه اقدامنا وواصلنا مسيرنا. بعد أن سرنا لعدة أعمدة عثرنا على العائلة الصديقة التي كنا قد اتفقنا معها على المسير، وهذه العائلة كنا قد تعرفنا عليها في الولايات المتحدة في ولاية يوتا. واصلنا معا طريقنا نحو الحسين عليه السلام. 

 

(المشاية) تجربة إنسانية ايمانية اجتماعية ثرية جدا. حينما تمشي نحو كربلاء اعلم أنك جزء صغير من مسيرة ضخمة تسير نحو الحسين وهذا الجزء الذي هو أنت لا بد له من أن يتكامل مع الأجزاء الأخرى حتى تحقق تلك المسيرة هدفها. وأهم شروط هذا التكامل هو التعارف البشري ومعرفة الاخر والتفاعل معه والاطلاع على همومه والاستفادة منه في شتى الجوانب. ... وهكذا بدأنا نسلم على هذا ونتحدث مع ذاك، وقد وفقنا الله سبحانه على التعرف على العديد من الأشخاص واستمعنا إلى قصصهم التي اتسمت بالمعاناة والتضحيات سواء أيام حكم (صدام) او بعد الغزو الأمريكي أو غيرها من قصص المعاناة. استمعنا إلى قصة معاناة بعض الأخوة من (تلعفر) بشمال العراق. وتعرفنا أيضا على آخرين قادمين من مدن و مناطق أخرى من العراق بالإضافة إلى افراد قادمين من بريطانيا.

 

ستلمس ضمن تلك المسيرة الإنسانية الثرية أثر الايمان أو العقيدة التي تحرك الناس نحو كربلاء. انها حركة روحية بكل ما للكلمة من معنى، إنها حركة عطاء وإخاء. فحينما تسير نحو الحسين فسترى ذلك السير الذي اعتق البعض من القيود الدنيوية تاركين كل ما لديهم خلفهم مستعيدًا في وجدانهم شريط الثورة الحسينية الشامخة. وصدى كلمات الامام الحسين عليه السلام في كربلاء تتردد في أصول آذانهم "إني لا أرى الموت إلا سعادة والحياة مع الظالمين إلا برما"، "إن الدعي ابن الدعي قد ركز بين اثنتين: بين السَّلة والذلة، وهيهات منا الذلة، يأبي الله لنا ذلك ورسوله والمؤمنون. فسترى أثر تلك الكلمات تستحث الصغير والكبير والعجوز والشيخ والكهل وحتى ذلك الشاب الفاقد لرجليه تجده يذهب زاحفا مستندا على كفيه... ناهيك عن الصغار الذين يسيرون خلف آبائه أو امهاتهم أو على أكتافهم واحضانهم... الكل يسير نحو الحسين. 

 

كانت والدتي المعطاء (زادها الله خيرا) اعطتني مبلغا من المال وقالت لي: "اشترِ للأطفال حلويات ووزعيها عليهم أثناء هذا المسير". وفعلا كانت تلك الحلويات البسيطة كفيلة بإدخال الفرحة الى قلوب اولئك المشاية الصغار الذين نسوهم الكبار في غمرة سيرهم. 

هناك أثناء سيرك نحو الحسين سترى مشاهد لم ولن تراها في حياتك كلها. من أبرز تلك المشاهد العطاء والبذل من غير حدود من قبل خدمة الحسين عليه السلام. ففرحة أولئك غير قابلة للوصف حينما يأتي إليهم الزائر الماشي فيأكل من أطعمتهم التي لا تعد. إنهم يبذلون كل ما في وسعهم لخدمة الزائر. استيقظنا صباح إحدى ليالينا الثلاث التي قضيناها في سيرنا على صوت رغاء جمل، وحينما خرجنا من خيمتنا وجدناهم يهيؤون الجمل للنحر حتى يكون غذاء للمشاية في ذلك اليوم. وحينما يقدمون لك تلك الوجبات فليس لها حد، ولسان حالهم كل ما شئت وخذ معك ما شئت حتى إنني وجدت امرأة تخزن الطعام في أكياس لكن المُضيف ظل يقدم لها من غير أي سؤال لماذا ولمن... بل يعطيها المزيد بكل فرح وسرور ولسان حاله:  إنها مائدة الحسين، وكرم الحسين اللامتناهي لن يُمسك عن طالب أو يقتر على ضيف. ويمتد هذا الكرم الحسيني حتى تراهم يتسابقون الى تكميد الارجل ومسحها وشحن بطاريات الهواتف وخدمات أخرى مشابهة... وهناك في سيرك نحو الحسين تجد كل ما لذ وطاب من طعام وشراب، لكن تبقى عيناك تنظر هناك بعيدا نحو القبة الغراء لضريح الحسين عليه السلام. 

 

كنا أحيانا نتشارك صحن الأكل منعا للإسراف لأن كمية الأكل المقدمة كبيرة فكنا نأخذ صحنا واحدا واذا جعنا فالطريق فيه كل ما لذ وطاب... لكن أصحاب المواكب كانوا يتضايقون من تصرفنا ذاك. فالعطاء عنوان تلك الأنفس التي تراها مستيقظة تخدم الزوار ليلا ونهارا! فإذا وصلت ليلا تجدهم ينتظرونك، وإذا انطلقت فجرا لتواصل سيرك تجدهم أمامك يودعونك بعد أن يحثونك على تناول الفطور.  في كل بقعة تصلها تجدهم أمامك مستعدين لخدمتك. 

 

المسير نحو الحسين عليه السلام ضمن تلك الجموع التي لا تحصى لا يخلو من صعوبات ومعاناة. فإلى جانب التعب الذي يعتريك أثناء قطع ثمانين ونيف من الكيلومترات على مدار أكثر من يومين متتاليين فلا بد أن تكون مستعدا لتحمل الآخرين. فقد تواجه زوارا يأتون متأخرين الخيام ويتحدثون بأصوات عالية في الوقت الذي أنت باشد الحاجة الى تلك السويعات للنوم والراحة حتى تواصل سيرك في اليوم التالي منذ الفجر. أوقد تواجهك (أختي الزائرة) نسوة اعتدن على التدخين فيضيقن عليك نفسك في مكان مغلق بدخان سجائرهم. وقد تواجهك صعوبات آخرى لكنها بعمومها لا تساوي إلا اليسير أمام  المكاسب التي يحققها السائر الى الحسين. إنها تتلاشى بمجرد رؤية القبة الحسينية التي تهفو نفس الزائر الى معانقة الضريح واحتضانه. 

 

عند الوصول إلى كربلاء ستجد بيوت العراقيين وقلوبهم مفتوحة لاستقبالك. ولأننا كنا مع أصدقائنا العراقيين فإننا توجهنا معهم الى البيوت التي اعتادوا النزول فيها. تفتح البيوت أمام الزوار ويجتمع الرجال في بيت والنساء في بيت آخر حيث يقدم للزوار كل شيء من خدمة غسيل الملابس إلى الطعام والشراب والفراش والاغطية وغير ذلك. هكذا هم أهل كربلاء بخلون بيوتهم لزوار الحسين وهم يتفرغون لتقديم الخدمات المختلفة لهم.

 

التجربة التي ستمر بها في مسيرة (المشاية) لا بد انها ستذكرك بالحسين عليه السلام الذي يمثل روح وقيم الإسلام المحمدي الذي أرسل بها جده المصطفى صلوات ربي عليه وعلى آله الطاهرين. لقد ضحى الحسين عليه السلام وبذل كل ما لديه من مال وولد وأصحاب ونفس في سبيل نصرة دين جده حتى أنه رفع رضيعه المذبوح نحو السماء قائلا: اللهم إن كان هذا يرضيك فخذ حتى ترضى! 

فسلام على الحسين وعلى أولاد الحسين وعلى أصحاب الحسين وعلى كل السائرين في درب الحسين عليه السلام. 

إن روحي تهفو للسير مع هؤلاء السائرين نحوك أبا عبد الله.  عظم الله أجوركم أيها السائرون نحو الحسين.

 



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق